كــــــــــــــــــــــــــــأني بــــــــــــــــــــــــــه:
في النار يتقلب في صنوف العذاب، وقد اجتمع له من العذاب المعنوي والجسدي ما لا تطيقه الجبال، وبينما هو على تلك الأحوال إذ بذكرياته الأليمة تعبث بخاطره، إنها ذكريات رحـــلته منذ أن كان في الدنيا إلى أن صار في الحطمة، قد امتطى فيها صهوة الأماني، لا يملك إلا أن يتمنى، ولكن بئس الأمنية تلك التي لا أمل في تحقيقها، فعندما يدرك ذلك يكتنفه الألم والحسرة.
كانت البداية هنا في الدنيا، عندما قضى حياته لعبًا ولهوًا، وغرته الحياة الدنيا، وغره بالله الغرور، لم يرج لله وقارًا، كان لفرض الله مضيعًا، وعن سبيل مرضاته نائيًا، ولغ في ماء المنكرات المسموم، وكان حول الذنوب يحوم، غره طول الأمل، وطمع في مد الأجل، أعرض عن سبيل الصالحين، وخاض مع الخائضين، حتى أتاه اليقين.
أتاه الموت حال غفلته وسهوه، فتذكر ماضيه الأسود، فكانت أول أمنياته عندما تذكر أن له ربًا: ((رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)) [المؤمنون:99-100]، وبينما هو في أمنيته، إذا بالجواب يسقط عليه كالصاعقة: ((كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [المؤمنون:100]،فيا لها من حسرة ويا له من ألم.
ودخل حفرته الضيقة، والتي استقبلته بضمة قاسية اختلفت فيها أضلاعه، وهناك تعرض لفتنة الملكين حيث سألاه بمنظرهما المخيف المرعب عن ربه ودينه ونبيه، فقال: هاه هاه لا أدري، قالها في ظل دهشته وحيرته؛ كيف أعجز عن إجابة تلك الأسئلة السهلة وأنا الذكي اللبق الفصيح؟! لم يدر المسكين بأن الأمر محض تثبيت من رب العالمين، جزاء لعباده الصالحين.
وظل في قبره يقاسي أهوال العذاب، فهذا ملك قائم على رأسه بحجر يشدخ بها رأسه فإذا التأمت عاد من جديد!! وهذا آخر يقطع من جانب فمه الأيمن إلى قفاه بخطاف من حديد، ثم يضعه في أنفه فيقطع إلى قفاه، ثم في عينه اليمنى إلى قفاه، ثم يستدير إلى الشق الأيسر، فيفعل فيه مثل ذلك، فيعود إلى الأول وقد التأم، وهكذا حتى تقوم الساعة!!
وكان رفيقه في قبره رجل قبيح المنظر، منتن الريح، لما سأله صاحبنا عن هويته أجاب: أنا عملك الخبيث.
ولما فتحت له نافذة على دار الجحيم، ورأى مآله ومكانه فيها وما له من العذاب، تمنى أمنية أخرى تنم عن عظم قدر العذاب المنتظر في النار يوم القيامة، قال: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.
يا سبحان الله، إنه يعذب في البرزخ عذابًا أليمًا، ومع ذلك يتمنى أن يظل في هذا العذاب لأنه قد تيقن أن عذاب الآخرة أشد وأخزى، كما أخبر ربنا تبارك وتعالى: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [السجدة:21]، فكان الأدنى هو عذاب القبر، والأكبر هو عذاب النار، ولكنها لم تكن سوى أمنية قد حيل بينه وبينها حيث ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)) [الزمر:68].
قامت القيامة وخرج من قبره كالجراد المنتشر، حافيًا عاريًا إلى أرض غير الأرض وتحت سماء غير السماء، فوقف مع الخلائق لا يسمع لهم إلا همسًا، فوقف يقاسي حر الشمس التي اقتربت من الرؤوس مقدار ميل، فسال عرقه حتى ألجمه.
وهنا رأى أمرًا عجيبًا، قد أحضرت البهائم وتجلى فيها عدل الله تعالى؛ حيث أمرت الشاة الجماء من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا، ثم قيل لها كوني ترابًا، فكانت ترابًا، وهنا قال صاحبنا في نفسه: يا ويلاه، لقد اقتص الله لهذه البهائم التي لا تعقل بعضها من بعض، فماذا سيفعل الله بي؟! أنا الذي ضربت هذا وشتمت هذا، وقذفت هذا، وأكلت مال هذا، ماذا سيفعل الله بي؟!
فتكالب عليه أهل المظالم آخذين بتلابيبه ينهالون عليه بسيل من الاتهامات: ضربتني، ظلمتني، شتمتني، أكلت مالي.....، لقد علم أن اليوم يوم القصاص ورد المظالم، لكنها على نسق مختلف، إنها الحسنات بالحسنات، فأعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فلما فنيت الحسنات قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، وهنا تذكر مصير الحيوانات بعد القصاص، فتمنى أمنيته العجيبة، تمنى أن يصير ترابًا كما صارت البهائم حتى لا يعاين العذاب فتمنى: ((يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)) [النبأ:40]، ولكن هيهات هيهات.
لما حان وقت توزيع الكتب، رأى أحدهم قد أخذ كتابه بيمينه، فطار في أرض المحشر مسرورًا فرحًا يقول: ((هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)) [الحاقة:19-20]، فأيقن أنه في: ((عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ)) [الحاقة:21-23]، فانتظر أن يأتيه الكتاب يأخذه بيمينه، إلا أنه رأي يده اليسرى تلتف وراء ظهره رغمًا عنه، ثم أتاه الكتاب فأمسكه بيسراه فعلم أنه الهلاك، فجزع وصاح بأمنيته: ((يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ))[الحاقة:25-27]، ولكنها مجرد أمنيه تذهب كلماتها أدراج الرياح.
كان له طفل صغير، يحبه حبًا كثيرًا، وإذا مرض ولده سهر بجانبه، يبكي لمرضه، ويتمنى لو كان مكانه مريضًا وكان ولده في عافية، لم يكن ليتردد في أن يفديه بحياته إذا اقتضى الأمر، ولما قامت القيامة، وعاين الأهوال وأيقن العذاب، تمنى أمنية قاسية هائلة، تمنى أن يفتدي من عذاب جهنم بولده فلذة كبده، فذلك يوم: ((يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ)) [المعارج:11]، ألهذه الدرجة بلغت الأهوال والشدائد حتى يتمنى أن يدخل الجنة على أكتاف ولده ويطرح فلذة كبده في النار؟! لكنها أمنية مصيرها كسابقتها.
ودخل النار ودخلت معه أمانيه، وصار يقاسي ألوان العذاب، يتجرع الزقوم، ويشرب ماء حميمًا يقطع الأمعاء، يصب من فوق رأسه الحميم، فصهر جلده وما في بطنه، عصارة أهل النار طعامه، وثياب النار لباسه، ألقي عليه الجوع والعطش، وما من طعام طيب يشبع به جوعته أو شراب يروي به ظمأه.
وهنا تذكر أهل الجنة أصحاب النعيم وما هم فيه من رغد العيش، وكيف أنهم دخلوا الجنة بالزكاة والصدقات والكرم والجود، فلن يضرهم أن يعطونا شيئًا مما أنعم الله عليهم به، فتوجه مع أقرانه من أهل النار بهذه الأمنية إلى أهل الجنة: ((أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)) [الأعراف:50]، وبينما هو ينتظر أن يتعطف عليهم أهل الجنة بشيء مما عندهم إذ به يتلقى هذه الصدمة، حيث قال أهل الجنة: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ))[ الأعراف:50] فازداد حسرة على حسرته وألمًا على ألمه.
ثم توالت الأماني، فقد توجه بإحداها إلى خزنة جهنم القائمين على عذابه، عله يستعطفهم فيرقون له، وليست هذه الأمنية بالشيء العسير، إنه فقط يوم واحد يخفف عنه من هذا العذاب الذي لا ينقطع لحظة واحدة، ولما كان يعلم أنهم ملائكة مقربون لا يفعلون شيئًا إلا بأمر الله، كانت أمنيته موزونة إذ توجه بالنداء إلى خزنة جهنم، ليس وحده إنما اشترك معه أقرانه الذين يشاركونه أمانيه، فقالوا: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ)) [غافر:49]، فأتاه الجواب كالعادة، لكنه حمل لونًا قاتمًا من التقريع والتبكيت، ((قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)) [غافر:50]، فلم تقابل أمنيته إلا بمزيد من دواعي الحسرة والألم.
ولأنه لا يملك سوى الأماني، فلم يكف عنها، في كل مرة كان يقول: عسى.
فقال في نفسه إلى من أتوجه بالنداء؟ فعلم أن لخزنة النار رئيسًا يدعى "مالك"، فقال في نفسه ربما يكون هذا الرئيس أرفق بي من أتباعه، فلم لا أطلب منه؟ ماذا أطلب؟ سوف أطلب منه أن يسأل الله لي الموت حتى أرتاح من هذا العذاب، لا يهم أن أدخل الجنة، ما يعنيني أن أموت وأتخلص من هذا العذاب المستمر، فتوجه مع أقرانه إلى "مالك": ((يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ))[الزخرف:77]، فمكث "مالك" ألف سنة حتى أجابهم، فبم أجاب "مالك" بعد هذا الزمان الطويل؟! لقد أجاب صاحبنا وأقرانه: ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) [الزخرف:77]، فلما سمع الرجل هذا الجواب شعر بأن هذه الكلمات لا تقل إيلامًا عن عذاب بدنه، فعظمت في قلبه الحسرة.
وبينما هو يتقلب في النار، إذ جاءته فكرة عظيمة، لماذا يتوجه بأمانيه إلى الملائكة، وهل بينه وبين الله حاجب عن الدعاء، لقد كان أهل الصلاح في الدنيا يتعلقون ويتشبثون بالدعاء فيستجيب الله لهم، فلم لا أدعوه وهو أرحم الراحمين، وهنا اجتمع مع أهل النار يقرون لله تعالى بجرمهم وما اقترفوه في الدنيا عله يرضى، فقالوا: ((رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ))[المؤمنون:106-107]، فانتظروا الجواب وما من جواب، وصاحبنا في كل يوم يقول عل الإجابة من الله تكون قريبًا، وظل على هذه الحال حتى مضى قدر عمر الدنيا مرتين، فأتى اليوم الذي أجابه فيه ربه: ((اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ))[المؤمنون:108]حينئذ بلغ منه الهم مبلغه، وأيقن في نفسه أنه لا أمل في النجاة، فلم يتفوه بعد هذه الإجابة بكلمة واحدة، وانقطعت به الأماني
مفكرة الإسلام