دور الأب في هداية ابنه
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد : للأب دور كبير في هداية ابنه . . كيف لا !! وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ( رواه مسلم ) . .
فهو سبب مؤثر رئيس في نقاء فطرة أبنائه ، واستقامة سلوكياتهم وأفكارهم ، ومنع المؤثرات السلبية من اجتياح عقولهم . . بل إن هداية الولد وتربية هو خير ما تُصرف له الأوقات ، وتجتمع لتحقيقه الطاقات ، وتبذل في سبيله الأموال والخبرات .
ما أجمل هذا الحديث ، وأحلاه وأبهاه ، إن حديث الهداية يُطرب النفس ، ويسر الخاطر ، وخصوصاً إن كان المعني بها فلذة الكبد ، وقرة العين . . ذاك أن نهاية المطاف ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) ( الطور / 21 ) ، وهي بريد السعادة في الدنيا والآخرة ، جاء في إحياء علوم الدين : ( فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها، لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحاً فمن أين ينفعه مجرد الإرادة ؟ فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ) .
وللوالدين قصب السبق في هداية وتربية أولادهما ؛ ذلك أنهما الأقرب ، والأقوى تأثيراً ، والأكثر ممارسة لمهمة التربية والتوجيه والتدريب والتأديب ، إلا أنهما سبب من الأسباب ، لهما هداية البيان والدلالة فقط ، يقول شيخ الإسلام ابن القيم في كتابة بدائع الفوائد حين حديثه عن أنواع الهداية : (( الثَّانِي : هِدَايَةُ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ وَالتَّعْرِيفِ لِنَجْدَيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَطَرِيقَيْ النَّجَاةِ وَالْهَلَاكِ . وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْهُدَى التَّامَّ فَإِنَّهَا سَبَبٌ وَشَرْطٌ لَا مُوجِبٌ، وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْهُدَى مَعَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ وَدَلَلْنَاهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا ، وَمِنْهَا قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) )) .
ولعل من أبرز ما يمكن أن يكون مؤثراً في هداية الولد وتربيته وصلاحه أموراً عدة منها :
1 صلاح الوالدين : جاء في تفسير البغوي رحمه الله، عند تأويل قوله تعالى: \"وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا\" [الكهف:82]، قال محمد بن المنكدر رحمه الله: \" إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده، وولد ولده، وعترته، وعشيرته، وأهل دويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم \" ، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله : ( إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي ) .
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : ( فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والأخرى بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة؛ لتقرّ عينه بهم ) .
2 الدعاء : جاء في كتاب الظلال تعليقاً على قول الله تعالى : ( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) ( الأحقاف / 15 ) ، قال : ( وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح .
وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة ) .
فلنتخير للدعاء الأزمنة الفاضلة ، والأماكن الشريفة ، والحالات التي يكون فيها الداعي متمسكناً ، متقرباً إلى الله بشيء من الأعمال الصالحة ، والقربات الخالصة ، نًكثر فيها من الدعاء لذرياتنا ، لعله يوافق باباً مفتوحاً فيستجيب الكريم الرحمن ، فكم من أم ، وكم من أب ، دعا لولده دعوة أسعدته في الدنيا والآخرة . . سيما وأن ذلك هدي الأنبياء والصالحين ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) ( إبراهيم / 40) ، ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) ( الفرقان / 74 ) .
3 العلاقة بالله : المهمة الأسمى للوالدين في تربية أبنائهم ، والمؤثر الأكبر في هدايتهم ، فكلما كانت قلوب فلذات أكبادنا متعلقة بالله العظيم ، كلما كان ذلك سياجاً حصيناً يحفظ فطرهم ، ويقوي إيمانهم ، ويبعدهم عن الزلل ، وسوء القول والعمل ، ولنتأمل كلام ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو يحدثنا عن توجيه الحبيب صلى الله عليه وسلم له : ( كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : \" يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) ( رواه أحمد والترمذي ) .
4 القدوة الحسنة ، والبيئة الإيمانية : الإنسان بفطرته يحتاج إلى قدوة تكون مثار إعجابه واحترامه ؛ حتى يرتبط بها في فعلها وقولها ، والوالدان يمثلان الجانب التطبيقي للسلوكيات التي تُعرض أمام أولادهم ، ومن هنا فأقوال الوالدين وأفعالهما وطرائق سلوكياتهما وتصرفاتهما في الأحداث والمواقف التي يعيشانها ، هي مصدر ثري لتغذية سلوكيات الأولاد ، كما أن البيئة المحيطة بالأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً إن كانت إيمانية صالحة محافظة ، فسيكون أثرها في الغالب صلاحاً واستقامة وتميزاً عليهم بإذن الله ، فصلاة الفريضة في المسجد ، والنافلة في البيت ، والألفاظ الحسنة ، والصدق في الأقوال ، وغض البصر عن المحارم ، والأمانة ، وغير ذلك كلها ميدان اقتداء من الوالدين لولدهما ، كما ينبغي انتهاز المواقف والأحداث المناسبة لغرس النواحي الإيمانية والتربوية فيه .
5 بناء الثقة بالنفس : عن سهل بن سعد قال : ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره فقال : \" يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ ؟ \" فقال : ما كنت لأوثر بفضل منك أحدا يا رسول الله فأعطاه إياه ) ( متفق عليه ) .هنا استأذن صلى الله عليه وسلم الغلام صاحب الحق في شرب القدح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكونه عن يمين المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً يقود جيشاً فيه كبار الصحابة رضي الله عنهم ، ومعاذ بن جبل يؤم القوم وهو في مقتبل عمره . .
صور رائعة في مدرسة النبوة تتيح لهم التعبير عن ذواتهم بكل أريحية ، وتحترم اختياراتهم ، وتوليهم المسؤوليات المناسبة لقدراتهم , والحوار معهم بنفس هادئة ، ومرتكزات واضحة ، بعيداً عن الإملاءات والتحقير ومصادرة الرغبات ، كما أنه من أسباب بناء الثقة لدى الولد خَصِّه ببعض الأسرار والاستشارات المناسبة دون غيره .
6 البيئة الجاذبة . . لا الطاردة : وحتى تُقطع صلة أبنائنا برفاق السوء ، والأفكار الهدَّامة ؛ ينبغي أن تكون بيوتاتنا محاضن جاذبة لا طاردة ، يجدون فيها الغذاء الروحي ، والعاطفي ، والفكري ، يُحِسُّون بمكانتهم العالية بين يدي والديهم وإخوتهم ، بشاشة ، وترحيباً ، وتقديراً ، وثناءً ، وأحاسيس متبادلة ، ومشاركة فاعلة بالرأي والعمل .إن من الأهمية القصوى لدى الأبوين أن تكون قلوبهما ونفوسهما وأسماعهما مشرعة لأحاديث وأفكار ومشاعر ورغبات أبنائهما ، وإلا سيبحثون في الخارج عمن يستمع إليهم ويحتويهم ، وهنا مكمن الخطورة إن كان هذا المتلقي ممن لا يخاف الله والدار الآخرة ، إذ أن الوِجْهَة ستكون وبالاً على الفرد ، وعلى أسرته ومجتمعه ، نسأل الله السلامة .
يقول الدكتور خالد الحليبي : ( ومن أبرز وسائل تحقيق الأمن النفسي للولد، إشباع الحاجات النفسية والفطرية والفيسلوجية، وإشباع الحاجة إلى الأمن والاستقرار المادي، والاقتراب الجسدي بالمسح واللمس والضم والتقبيل، والدعم العاطفي باللغة والإشارة والدمعة والضحكة، والإنصات المبدع، والتوسط بين الحماية والاستقلالية، والإشباع الجنسي السليم؛ سواء بتصريف الطاقة الجنسية في أعمال جليلة، أو الرياضة الحسنة، أو بالزواج الطريق الشرعي الوحيد، ودعم التفاعل الاجتماعي، وتكريس الإحساس بالانتماء للأسرة، ثم للوطن ثم للأمة، وكل ذلك ضمن الانتماء للدين، وإشباع الحاجة للعب والمرح، والحاجة إلى تقدير الذات ذاتيا وغيريا، وتوجيه ورعاية واستثمار الحاجة إلى بلوغ الأهداف بالقدرات الذاتية ) .
7 الاستثمار في الولد : نعم . . لنتعامل مع فلذات أكبادنا على أنهم رأس مال عزيز ، وسبيل ربح وفير ، وأمان بإذن الله من الفقر والحاجة ، أليس الولد الصالح من الباقيات لنا بعد الممات ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) ( رواه مسلم ) !! فلم إذا لا نستثمر جهدنا وأموالنا وأفكارنا في أولادنا ، نتفرغ لتربيتهم منذ نعومة أظفارهم ، أو نُخَصِّص لهم مربياً ومؤدبا ، يَتَّصف برسوخ العقيدة الإسلامية ، والإلمام بالمواد التي يدرُسُها الابن ، ويراعِي ميول وحاجات الأطفال ومعاملتهم بالإحسان والتلطّف ، نلحقهم بحلق القرآن الكريم ، نُعَرِّفهم مبادئ الدين الإسلامي ، واللغة العربية ، وبعض العلوم الأخرى ، نُقوِّم ألسنتهم بالقراءة الصحيحة ، وبحفظ شيء من الأحاديث النبوية ، وأشعار العرب وأمجادهم ، نؤكد فيهم شخصيتهم المتميزة ، نُنّمِّي فيهم بعض المهارات النافعة ، ونتعاون معهم لرسم أهداف واضحة ومثمرة في حياتهم ، وفي الجملة العمل على تنشئتهم النشأة الصالحة وغرس الأخلاق الحميدة والمبادئ الفاضلة في نفوسهم .
8 الصاحب ساحب : وكل قرين بالمقارن يقتدي ، ولذا ينبغي توجيه الولد لاختيار الرفقة الصالحة النافعة ، ومتابعته فيمن يلتقيهم وإن كان صغيراً ، على أن تكون هذه المتابعة بشكل غير ملحوظ ، ولا يدل على شك أو تخوين ، ثم على الوالدين معاملة أولادهما معاملة الأخ أو الصديق ، وفتح ميادين حوارية معه وإن صغرَ سِنِّه . 9 وأخيراً . . لا ننس أن تربية أبنائنا جهاداً عظيماً ، ولا تحصل الهداية لنا ولهم إلا بالمجاهدة ، وتجاهل حظوظ النفس ، والتغلب على تثبيط الشياطين ، وبذل الغالي والرخيص لسلامة معتقدهم ، وحُسن مسيرتهم ، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد : ( قال تعالى : \" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا \" علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا وأفضل الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فانه من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد ) . والله أعلم ، وصلِّ اللهم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .